فصل: بَابُ الشَّهِيدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ:

(وَإِذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ) بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَزِيَادَةُ الْإِكْرَامِ وَالصِّيَانَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ: يَضَعُهَا السَّابِقُ عَلَى أَصْلِ عُنُقِهِ، وَالثَّانِي عَلَى أَعْلَى صَدْرِهِ، لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا حُمِلَتْ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ).
قولهُ: (لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هَكَذَا حُمِلَتْ) رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ بَيْتِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ حَتَّى خَرَجَ بِهِ مِنْ الدَّارِ» قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالدَّارُ تَكُونُ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ انْتَهَى. إلَّا أَنَّ الْآثَارَ فِي الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: تُوُفِّيَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَشَهِدْنَاهُ، فَلَمَّا خُرِّجَ سَرِيرُهُ مِنْ حُجْرَتِهِ إذَا حَسَنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ، فَأَمَرَ بِهِ الْحَجَّاجُ أَنْ يَخْرُجَ لِيَقِفَ مَكَانَهُ فَأَبَى، فَسَأَلَهُ بَنُو جَابِرٍ أَلَا خَرَجْت فَخَرَجَ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وُضِعَ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ، ثُمَّ جَاءَ إلَى الْقَبْرِ فَنَزَلَ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ فِي قَبْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ الْحَجَّاجُ أَنْ يَخْرُجَ لَيَدْخُلَ مَكَانَهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ بَنُو جَابِرٍ فَخَرَجَ، فَدَخَلَ الْحَجَّاجُ الْحُفْرَةَ حَتَّى فَرَغ.. وَأَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ: تُوُفِّيَ أُسَيْدَ بْنُ حُضَيْرٍ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَحَمَلَهُ عُمَرُ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ حَتَّى وَضَعَهُ بِالْبَقِيعِ وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَحْمِلُ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرٍ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَحْمِلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ وَاضِعًا السَّرِيرَ عَلَى كَاهِلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَائِمًا بَيْنَ قَائِمَتَيْ السَّرِيرِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ عَنْ شُرَيْحٍ أَبِي عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَحْمِلُ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرٍ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ. قُلْنَا: هَذِهِ مَوْقُوفَاتٌ وَالْمَرْفُوعُ مِنْهَا ضَعِيفٌ، ثُمَّ هِيَ وَقَائِعُ أَحْوَالٍ فَاحْتَمَلَ كَوْنُ ذَلِكَ فَعَلُوهُ لِأَنَّهُ السُّنَّةُ أَوْ لِعَارِضٍ اقْتَضَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَمْلَ الِاثْنَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنْ نَقول: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَمْلِ الِاثْنَيْنِ لِجَوَازِ حَمْلِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحَدُهُمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ بِأَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَخَّرُ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ يَسَارِ الْمَيِّتِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى الْأَيْسَرِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ يَمِينِ الْمَيِّتِ فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّ بَعْضَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ رُوِيَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي عَطَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَحَمَلَ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَع.. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنِي الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْمِهْزَمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ حَمَلَ الْجِنَازَةَ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَقَدْ قَضَى الَّذِي عَلَيْهِ. ثُمَّ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ. رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَحَدَّثَنَا الْمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ بِهِ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ حَمْلُ الْجِنَازَةِ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِهِ وَلَفْظُهُ: مَنْ اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ ثُمَّ إنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ. فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ وَأَنَّ خِلَافَهُ إنْ تَحَقَّقَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ فَلِعَارِضٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُنَاظِرِ تَعْيِينُهُ، وَقَدْ يَشَاءُ فَيُبْدِي مُحْتَمَلَاتٍ مُنَاسَبَةً يُجَوِّزُهَا تَجْوِيزًا كَضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ كَثْرَةِ النَّاسِ أَوْ قِلَّةِ الْحَامِلِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَثْرَةُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَقَدْ شَهِدَهُ - يَعْنِي سَعْدًا- سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَمْ يَنْزِلُوا إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ ضَمَّهُ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ». وَمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ» فَإِنَّمَا يُتَّجَهُ مُحْمَلًا عَلَى تَقْدِيرِ تَجَسُّمِهِمْ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَا تَجَرُّدِهِمْ عَنْ الْكَثَافَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ خِلْقَتِهِمْ.
وَفِي الْآثَارِ: «مَعَ كُلِّ عَبْدٍ مَلَكَانِ، وَفِيهَا أَكْثَرُ إلَى سَبْعِينَ» فَلَمْ تُوجِبْ مُزَاحَمَةً حِسِّيَّةً وَلَا مَنْعًا مِنْ اتِّصَالٍ بَيْنَك وَبَيْنَ إنْسَانٍ، وَلَا حَمْلَ شَيْءٍ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَالرَّأْسِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ بِسَبَبٍ حَمْلِهِمْ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ اُكْتُفِيَ عَنْ تَكْمِيلِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْحَامِلِينَ، وَلِأَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَصْوَنُ لِلْجِنَازَةِ عَنْ السُّقُوطِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ أَشَقَّ عَلَى الْحَامِلِينَ مَصْلَحَةٌ مُعَارَضَةٌ بِمَفْسَدَةِ تَعْرِيضِهِ عَلَى السُّقُوطِ خُصُوصًا فِي مَوَاطِنِ الزَّحْمَةِ وَالْمِحْجَنِ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ إكْرَامًا لِلْمَيِّتِ وَأَعْوَنُ عَلَى تَحْصِيلِ سُنَّةِ الْإِسْرَاعِ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِذَاكِرِهِ حَمْلُهُ عَلَى الظَّهْرِ وَالدَّابَّةِ.

متن الهداية:
(وَيَمْشُونَ بِهِ مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ قَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (دُونَ الْخَبَبِ) ضَرْبٌ مِنْ الْعَدْوِ دُونَ الْعُنُقِ وَالْعُنُقُ خَطْوٌ فَسِيحٌ فَيَمْشُونَ بِهِ دُونَ مَا دُونَ الْعُنُقِ، وَلَوْ مَشَوْا بِهِ الْخَبَبَ كُرِهَ لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْمَيِّتِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ إلَخْ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: «سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ» وَهُوَ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ يَمُوتُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا بَلَغُوا إلَى قَبْرِهِ يُكْرَهُ أَنْ يَجْلِسُوا قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ) لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعَاوُنِ وَالْقِيَامُ أَمْكَنُ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعَاوُنِ إلَخْ) وَلِأَنَّ الْمَعْقول مِنْ نَدْبِ الشَّرْعِ لِحُضُورِ دَفْنِهِ إكْرَامُ الْمَيِّتِ، وَفِي جُلُوسِهِمْ قَبْلَ وَضْعِهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ وَعَدَمُ الْتِفَاتٍ إلَيْهِ، هَذَا فِي حَقِّ الْمَاشِي مَعَهَا، أَمَّا الْقَاعِدُ عَلَى الطَّرِيقِ إذَا مَرَّتْ بِهِ أَوْ عَلَى الْقَبْرِ إذَا جِيءَ بِهِ فَلَا يَقُومُ لَهَا، وَقِيلَ يَقُومُ، وَاخْتِيرَ الْأَوَّلُ لَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجِنَازَةِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَحْمَدَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكَيْفِيَّةُ الْحَمْلِ) أَنْ تَضَعَ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِك إيثَارًا لِلتَّيَامُنِ، وَهَذَا فِي حَالَةِ التَّنَاوُبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَنْ تَضَعَ) هُوَ حِكَايَةُ خِطَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَبِي يُوسُفَ، وَالْمُرَادُ بِمُقَدَّمِ الْجِنَازَةِ يَمِينُهَا، وَيَمِينُ الْجِنَازَةِ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ هُوَ يَسَارُ السَّرِيرِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنْ تَضَعَ يَسَارَ السَّرِيرِ الْمُقَدَّمَ عَلَى يَمِينِك ثُمَّ يَسَارَهُ الْمُؤَخَّرَ ثُمَّ يَمِينَهُ الْمُقَدَّمَ عَلَى يَسَارِك ثُمَّ يَمِينَهُ الْمُؤَخَّرَ لِأَنَّ فِي هَذَا إيثَارًا لِلتَّيَامُنِ.
(تَتِمَّةٌ):
الْأَفْضَلُ لِلْمُشَيِّعِ لِلْجِنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا وَيَجُوزُ أَمَامَهَا إلَّا أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهَا أَوْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ فَيُكْرَهُ وَلَا يَمْشِي عَنْ يَمِينِهَا وَلَا عَنْ شِمَالِهَا، وَيُكْرَهُ لِمُشَيِّعِهَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَيَذْكُرُ فِي نَفْسِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ نُقِلَ فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْمَعْنَى. هُوَ يَقول: هُمْ شُفَعَاءُ وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ لِيُمَهِّدَ الْمَقْصُودَ، وَنَحْنُ نَقول: هُمْ مُشَيِّعُونَ فَيَتَأَخَّرُونَ وَالشَّفِيعُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَصْحِبُ الْمَشْفُوعَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ شَرْعًا إلْزَامُ تَقْدِيمِهِ حَالَةَ الشَّفَاعَةِ لَهُ أَعْنِي حَالَةَ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ شَرْعًا عَدَمُ اعْتِبَارِ مَا اعْتَبَرَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ:

(وَيُحْفَرُ الْقَبْرُ وَيُلْحَدُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَاللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» (وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ) مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يُسَلُّ سَلًّا لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُلَّ سَلًّا». وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَيُسْتَحَبُّ الْإِدْخَالُ مِنْهُ، وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ):
قولهُ: (وَيُلْحَدُ) السُّنَّةُ عِنْدَنَا اللَّحْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورَةً مِنْ رَخْوِ الْأَرْضِ فَيُخَافُ أَنْ يَنْهَارَ اللَّحْدُ فَيُصَارُ إلَى الشَّقِّ، بَلْ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْأَرْضِينَ مِنْ الرِّمَالِ يَسْكُنُهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الشَّقُّ أَيْضًا، بَلْ يُوضَعُ الْمَيِّتُ وَيُهَالُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَامِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِيهِ مَقَالٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ «لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَلْحَدُ وَالْآخَرُ يَضْرَحُ، فَقَالُوا: نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إلَيْهِمَا فَأَيُّهُمَا سَبَقَ تَرَكْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ، فَلَحَّدُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَهُوَ مَا أُخْرِجَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ مِنْ سَعْدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلْحَدَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُلْحِدَ وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنَ نَصْبًا وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنْ الْأَرْضِ نَحْوَ شِبْرٍ» وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يُرْمَسَ فِي التُّرَابِ رَمْسًا، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَالَ: لَيْسَ أَحَدُ جَنْبَيَّ أَوْلَى بِالتُّرَابِ مِنْ الْآخَرِ.
قولهُ: (وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ مِمَّا يَلِي) وَذَلِكَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ الْمَيِّتُ مِنْهُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ فَيَكُونُ الْآخِذُ لَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَخْذِ.
قولهُ: (فَإِنَّ عِنْده يُسَلُّ سَلًّا) هُوَ بِأَنْ يُوضَعَ السَّرِيرُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ مِنْ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخَلُ رَأْسُ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ وَيُسَلُّ كَذَلِكَ فَتَكُونُ رِجْلَاهُ مَوْضِعَ رَأْسِهِ، ثُمَّ تُدْخَلُ رِجْلَاهُ وَيُسَلُّ كَذَلِكَ، قَدْ قِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَالْمَرْوِيُّ لِلشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «سُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ».
وَقَالَ: أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي النَّضْرِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ»، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُد صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا أُخْرِجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالسَّبِيعِيِّ قَالَ: أَوْصَانِي الْحَارِثُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخِطْمِيُّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، قُلْنَا إدْخَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُضْطَرَبٌ فِيهِ، فَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ رُوِيَ خِلَافُهُ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ وَمَنْ قَالَ التَّيْمِيُّ فَقَدْ وَهَمَ، فَإِنَّ حَمَّادًا إنَّمَا يَرْوِي عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُدْخِلَ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُسَلَّ سَلًّا» وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرُفِعَ قَبْرُهُ حَتَّى يُعْرَفَ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُخِذَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَاسْتُقْبِلَ اسْتِقْبَالًا» وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى مَا دَفَعَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ مِنْ أَنَّ سَلَّهُ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْقَبْرَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُفِنَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَوَفَّ مُلْتَصِقًا إلَى الْحَائِطِ بَلْ مُسْتَنِدًا إلَى عَائِشَةَ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كَانَتْ تَقول: «مَاتَ بَيْنَ حَافِنَتِي وَذَاقِنَتِي» يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُبَاعِدًا مِنْ الْحَائِطِ وَإِنْ كَانَ فِرَاشُهُ إلَى الْحَائِطِ لِأَنَّهُ حَالَةَ اسْتِنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا يُتَوَفَّى مُسْتَقْبِلًا فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ اللَّحْدِ مُلْتَصِقًا إلَى أَصْلِ الْجِدَارِ، وَمَنْزِلُ الْقَبْرِ قِبْلَةً، وَلَيْسَ الْإِدْخَالُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ إلَّا أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عَلَى سَقْفِ اللَّحْدِ ثُمَّ يُؤْخَذَ الْمَيِّتُ وَحِينَئِذٍ نَقول: تَعَارَضَ مَا رَوَاهُ وَمَا رَوَيْنَاهُ فَتَسَاقَطَا. وَلَوْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ كَانَ لِلضَّرُورَةِ كَمَا قُلْنَا. وَغَايَةُ فِعْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ ظَنَّ السُّنَّةَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا التَّشْرِيعَ الْمَنْقول عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ خِلَافَهُ، وَكَذَا عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَالْأَوَّلُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ رَحِمَكَ اللَّهُ إنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ انْتَهَى. مَعَ أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ وَمِنْهَالَ بْنَ خَلِيفَةَ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا وَذَلِكَ يَحُطُّ الْحَدِيثَ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ لَا الْحَسَنِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي أَمْرِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي بَابِ الْقِرَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى يَزِيدَ بْنَ الْمُكَفِّفِ أَرْبَعًا وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَة.. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ وَلَّى ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ.

متن الهداية:
(فَإِذَا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ يَقول وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) كَذَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَبْرِ (وَيُوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتُحَلُّ الْعُقْدَةُ) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الِانْتِشَارِ (وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ اللَّبِنُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ) غَلَطٌ، فَإِنَّ أَبَا دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ بِاسْمِ الله: «وَبِاَللَّهِ» وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُه: «إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَقولوا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ طُرُقٌ أُخْرَى عَدِيدَةٌ.
قولهُ: (وَيُوَجَّهُ بِذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) غَرِيبٌ، وَاسْتُؤْنِسَ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: هِيَ تِسْعٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا اسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُعِلَ فِي قَبْرِهِ اللَّبِنُ) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْحَدُوا لِي لَحَدًّا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ، وَفِيه: «نُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا» الْحَدِيثَ.

متن الهداية:
(وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ) لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَمَبْنَى حَالِ الرِّجَالِ عَلَى الِانْكِشَافِ (وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَالْخَشَبُ) لِأَنَّهُمَا لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى، ثُمَّ بِالْآجُرِّ يَكُونُ أَثَرُ النَّارِ فَيُكْرَهُ تَفَاؤُلًا (وَلَا بَأْسَ بِالْقَصَبِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَيُسْتَحَبُّ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُمَا مِنْ إحْكَامِ الْبِنَاءِ) وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ بِأَنَّ الْآجُرَّ مَسَّتْهُ النَّارُ وَدُفِعَ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغَسَّلَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ، فَعُلِمَ أَنَّ مَسَّ النَّارِ لَمْ يُعْتَبَرْ مَانِعًا فِي الشَّرْعِ وَالْأَوْلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَفِي الدَّفْعِ نَوْعُ نَظَرٍ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ) وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ حُزْمَةٌ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ) وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَأَسْنَدَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، أَوْصَى أَبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى لَحْدِهِ طُنًّا مِنْ قَصَبٍ وَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ خَطَأُ هَذَا الْحَدِيثِ لِمُعَارَضَةِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُضِعَ اللَّبِنُ عَلَى قَبْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصْبًا مَعَ قَصَبٍ كُمِّلَ بِهِ لِإِعْوَازٍ فِي اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُسَطَّحُ) أَيْ لَا يُرَبَّعُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ. وَمَنْ شَاهَدَ قَبْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُسَنَّمٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ) وَمَنْ شَاهَدَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُسَنَّمٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ وَتَجْصِيصِهَا» وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَاشِزَةً مِنْ الْأَرْضِ وَعَلَيْهَا فِلْقٌ مِنْ مَدَرٍ أَبْيَضَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ سُفْيَانَ التَّمَارَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى «قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا». وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَلَفْظُهُ عَنْ سُفْيَانَ: وَدَخَلْت الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَنَّمَةً وَمَا عُورِضَ بِهِ مِمَّا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءَ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ»، لَيْسَ مُعَارِضًا لِهَذَا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَأَيْضًا ظَهَرَ أَنَّ الْقَاسِمَ أَرَادَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ بِرِوَايَةِ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْت ثَلَاثَةً كُلُّهُمْ لَهُ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبٌ، سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ، وَسَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَأَلْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قُلْت: أَخْبِرُونِي عَنْ قُبُورِ آبَائِكُمْ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَكُلُّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا مُسَنَّمَةُ. وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهِيَاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: «أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» فَهُوَ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ بِالْبِنَاءِ الْحَسَنِ الْعَالِي، وَلَيْسَ مُرَادُنَا ذَلِكَ الْقَدْرَ بَلْ قَدْرَ مَا يَبْدُو مِنْ الْأَرْضِ وَيَتَمَيَّزُ عَنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
تَتِمَّةٌ:
لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ الْقَبْرَ وَلَا يُخْرِجُهُنَّ إلَّا الرِّجَالُ وَلَوْ كَانُوا أَجَانِبَ، لِأَنَّ مَسَّ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا بِحَائِلٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ فِي حَيَاتِهَا، فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِذَا مَاتَتْ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا دَفَنَهَا أَهْلُ الصَّلَاحِ مِنْ مَشَايِخِ جِيرَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالشَّبَابُ الصُّلَحَاءُ، أَمَّا إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَوْ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ نَزَلَ وَأَلْحَدَهَا، وَلَا يُنْبَشُ بَعْدَ إهَالَةِ التُّرَابِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ إلَّا لِعُذْرٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: وَالْعُذْرُ أَنَّ الْأَرْضَ مَغْصُوبَةٌ أَوْ يَأْخُذُهَا شَفِيعٌ، وَلِذَا لَمْ يُحَوَّلْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ دُفِنُوا بِأَرْضِ الْحَرْبِ إذْ لَا عُذْرَ، فَإِنْ أَحَبَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يُسَوِّيَ الْقَبْرَ وَيَزْرَعَ فَوْقَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا. فَإِنْ شَاءَ تَرَكَ حَقَّهُ فِي بَاطِنِهَا. وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَمِنْ الْأَعْذَارِ أَنْ يُسْقَطَ فِي اللَّحْدِ مَالٌ ثَوْبٌ أَوْ دِرْهَمٌ لِأَحَدٍ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشَايِخِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ، فَتَجْوِيزُ شَوَاذِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّهُ لَا يُنْبَشُ وَقَدْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ أَوْ بِلَا صَلَاةٍ فَلَمْ يُبِيحُوهُ لِتَدَارُكِ فَرْضٍ لَحِقَهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِهِ، أَمَّا إذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ تَسْوِيَةَ اللَّبِنِ فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهِ نَحْوَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إلَى الْمَقَابِرِ قَدْ تَبْلُغُ هَذَا الْمِقْدَارَ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: قول مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَقْلَهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ مَكْرُوهٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ كُلٌّ فِي مَقْبَرَةِ الْبَلْدَةِ الَّتِي مَاتَ بِهَا، وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مَاتَ بِالشَّامِ وَحُمِلَ مِنْهَا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيك إلَيَّ مَا نَقَلْتُك وَلَدَفَنْتُك حَيْثُ مِتَّ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَا إثْمَ لِمَا نُقِلَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ بِمِصْرٍ فَنُقِلَ إلَى الشَّامِ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَقَلَ تَابُوتَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَمَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانٌ مِنْ مِصْرٍ إلَى الشَّامِ لِيَكُونَ مَعَ آبَائِهِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا وَلَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ مَاتَ فِي ضَيْعَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي بَلْدَةٍ يُكْرَهُ نَقْلُهُ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ بِمَا فِيهِ تَأْخِيرُ دَفْنِهِ وَكَفَى بِذَلِكَ كَرَاهَةً. وَمَنْ حَفَرَ قَبْرًا فِي مَقْبَرَةٍ لِيُدْفَنَ فِيهِ فَدُفِنَ غَيْرُهُ لَا يُنْبَشُ لَكِنْ يُضَمَّنُ قِيمَةَ الْحَفْرِ، وَلَا يُدْفَنُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ بَلْ يُنْقَلُ إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يُحْفَرُ قَبْرٌ لِدَفْنِ آخَرَ إلَّا إنْ بَلِيَ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا عَظْمٌ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ بُدٌّ فَيُضَمُّ عِظَامُ الْأَوَّلِ وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ. وَمَنْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ دَفَنُوهُ إنْ أَمْكَنَ الْخُرُوجُ إلَى أَرْضٍ، وَإِلَّا أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلَاةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ يُثَقَّلُ لِيَرْسُبَ، وَعَنْ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ إنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِلَّا شُدَّ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِيَقْذِفَهُ الْبَحْرُ فَيُدْفَنُ وَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُسَمَّى فَسَاقِي وَالْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ وَوَطْؤُهُ، وَحِينَئِذٍ فَمَا يَصْنَعُهُ النَّاسُ مِمَّنْ دُفِنَتْ أَقَارِبُهُ ثُمَّ دُفِنَ حَوَالَيْهِمْ خَلْقٌ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ مَكْرُوهٌ. وَيُكْرَهُ النَّوْمُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، بَلْ أَوْلَى وَكُلُّ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي السُّنَّةِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا زِيَارَتَهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا قَائِمًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْبَقِيعِ وَيَقول: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ». وَاخْتُلِفَ فِي إجْلَاسِ الْقَارِئِينَ لِيَقْرَءُوا عِنْدَ الْقَبْرِ وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ مَاتَتْ وَاضْطَرَبَ فِي بَطْنِهَا شَيْءٌ وَكَانَ رَأْيُهُمْ أَنَّهُ وَلَدٌ حَيٌّ شُقَّ بَطْنُهَا، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ابْتَلَعَ الرَّجُلُ دُرَّةً فَمَاتَ وَلَمْ يَدَعْ مَالًا عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهُ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إبْطَالَ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الْحَيِّ فَيَجُوزُ. أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إبْطَالُ حُرْمَةِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْآدَمِيُّ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الْأَدْنَى وَهُوَ الْمَالُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهُ حَيًّا لَوْ ابْتَلَعَهَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْفَضَلَاتِ فَكَذَا مَيِّتًا، بِخِلَافِ شَقِّ بَطْنِهَا لِإِخْرَاجِ الْوَلَدِ إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ جُعِلَ عَدَمُ شِقِّ بَطْنِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى الْجُرْجَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُشَقُّ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي انْتَهَى. وَهَذَا أَوْلَى. وَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِرَامَ يَزُولُ بِتَعَدِّيهِ. وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ لِلْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَيُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَتُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَفْتِنَّ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَزَّى أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصُنْعَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ النِّيَاحَةِ. وَيُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَقْرِبَاءِ الْأَبَاعِدِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لَهُمْ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلِأَنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ لِأَنَّ الْحُزْنَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَيَضْعُفُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.


.بَابُ الشَّهِيدِ:

(الشَّهِيدُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ فَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِم: «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ» فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِالْحَدِيدَةِ ظُلْمًا وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرِ الْجِرَاحَةُ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ الْقَتْلِ، وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقول السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ، وَنَحْنُ نَقول: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَا، وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ كَالنَّبِيِّ وَالصَّبِيِّ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الشَّهِيدِ) وَجْهُ فَضْلِهِ، وَتَأْخِيرُهُ ظَاهِرٌ، وَسُمِّيَ شَهِيدًا إمَّا لِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ إكْرَامًا لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَلِشُهُودِهِ أَيْ حُضُورِهِ حَيًّا يُرْزَقُ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ.
قولهُ: (الشَّهِيدُ إلَخْ) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلشَّهِيدِ الْمَلْزُومِ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي عَدَمَ تَغْسِيلِهِ وَنَزْعِ ثِيَابِهِ لَا لِمُطْلَقِهِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَثَّ وَغَيْرَهُ شَهِيدٌ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى قول الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ يُجْتَنَبُ فِي الْحَدِّ لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى قَيْدٍ مُدْخِلٍ وَهُوَ قولنَا: إلَّا مَا يَجِبُ بِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَوْ أُرِيدَ تَصْوِيرُهُ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ قُتِلَ ظُلْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ وَبِجَارِحٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ تَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ بِنَفْسِ الْقَتْلِ وَلَمْ يُرْتَثَّ فَظُلْمًا مُخْرِجٌ لِلْمَقْتُولِ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ سَقَطَ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ غَرِقَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا. وَأَمَّا إذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ كَافِرٍ فَوَطِئَتْ مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ سَائِقٍ، أَوْ رَمَى مُسْلِمٌ إلَى الْكُفَّارِ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، أَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ مِنْ سَوَادِ الْكُفَّارِ، أَوْ نَفِدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَأَلْجَئُوهُمْ إلَى خَنْدَقٍ أَوْ نَارٍ وَنَحْوِهِ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ جَعَلُوا حَوْلَهُمْ الْحَسَكَ فَمَشَى عَلَيْهَا مُسْلِمٌ فَمَاتَ بِهِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ فِعْلَهُ وَفِعْلَ الدَّابَّةِ دُونَ حَامِلٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ إلَيْهِمْ. أَمَّا لَوْ طَعَنُوهُمْ حَتَّى أَلْقَوْهُمْ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَفَّرُوا دَابَّةً فَصَدَمَتْ مُسْلِمًا، أَوْ رَمَوْا نَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَبَّتْ بِهَا رِيحٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَرْسَلُوا مَاءً فَغَرِقَ بِهِ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ مُضَافٌ إلَى الْعَدُوِّ تَسْبِيبًا. فَإِنْ قِيلَ فِي الْحَسَكِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَسَّلَ لِأَنَّ جَعْلَهُ تَسْبِيبٌ لِلْقَتْلِ. قُلْنَا: مَا قُصِدَ بِهِ الْقَتْلُ يَكُونُ تَسْبِيبًا وَمَا لَا فَلَا، وَهُمْ قَصَدُوا بِهِ الدَّفْعَ لَا الْقَتْلَ. وَقولنَا بِجَارِحٍ لَا يَخُصُّ الْحَدِيدَ بَلْ يَشْمَلُ النَّارَ وَالْقَصَبَ. وَقولنَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بَعْدَ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَعَمَّا إذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ، وَالْوَلَدُ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ، فَإِنَّ مُوجِبَ فِعْلِهِ ابْتِدَاءُ الْقِصَاصِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَالًا لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، وَبَاقِي الْقُيُودِ ظَاهِرَةٌ، وَسَتَخْرُجُ مِمَّا سَيُورَدُ مِنْ الْأَحْكَامِ.
قولهُ: (قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شُهَدَاءِ إلَخْ) غَرِيبٌ تَمَامُهُ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْرَفَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ فَقَالَ: إنِّي شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ».اهـ. إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْغُسْلِ، إذْ مَعَ الْغُسْلِ لَا يَبْقَى.
وَفِي تَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَيَقول: أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ» زَادَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّسَائِيّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَفَرُّدُ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ قال: «رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ».
قولهُ: (وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَوُجِدَ مَيِّتًا فِي الْمَعْرَكَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ بِهِ أَثَرٌ أَوْ لَا، فَإِنْ وُجِدَ فَإِنْ كَانَ خُرُوجُ دَمٍ مِنْ جِرَاحَةٍ ظَاهِرَةً فَهُوَ شَهِيدٌ أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ مُعْتَادٍ كَالْأَنْفِ وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ لَمْ نُثْبِتْ شَهَادَتَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبُولُ دَمًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ حُكِمَ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ رَضٍّ ظَاهِرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَهِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ أَصْلًا لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ انْخَلَعَ قَلْبُهُ. وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْ الْفَمِ فَقَالُوا: إنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الرَّأْسِ بِأَنْ يَكُونَ صَافِيًا غُسِلَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَهُ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الْجَوْفِ فَيَكُونُ مِنْ جِرَاحَةٍ فِيهِ فَلَا يُغْسَلُ. وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْمُرْتَقَى مِنْ الْجَوْفِ قَدْ يَكُونُ عَلَقًا فَهُوَ سَوْدَاءُ بِصُورَةِ الدَّمِ، وَقَدْ يَكُونُ رَقِيقًا مِنْ قُرْحَةٍ فِي الْجَوْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي طَهَارَةٍ الطَّهَارةِ فَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهُ مِنْ جِرَاحَةٍ حَادِثَةٍ بَلْ هُوَ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَاتِ.
قولهُ: (وَيَقول السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ) ذَكَرُوهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ حَدِيثًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ عِنْدَنَا، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُثْبِتٌ وَحَدِيثُ جَابِرٍ نَافٍ، وَنَمْنَعُ أَصْلَ الْمُخَالِفِ فِي تَضْعِيفِ الْمَرَاسِيلِ، وَلَوْ سَلَّمَ فَعِنْدَهُ إذَا اُعْتُضِدَ يَرْفَعُ مَعْنَاهُ. قِيلَ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قال: «فَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ حِينَ فَاءَ النَّاسُ مِنْ الْقِتَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَآهُ وَرَأَى مَا مُثِّلَ بِهِ شَهِقَ وَبَكَى، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَرَمَى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ جِيءَ بِحَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ بِالشُّهَدَاءِ فَيُوضَعُونَ إلَى جَانِبِ حَمْزَةَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ كُلِّهِمْ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ إلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ مُفَضَّلَ بْنَ صَدَقَةَ أَبَا حَمَّادٍ الْحَنَفِيَّ، وَهُوَ وَإِنْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى وَالنَّسَائِيُّ فَقَدْ قَالَ الْأَهْوَازِيُّ: كَانَ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ يُوَثِّقُهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ يُثْنِي عَلَيْهِ ثَنَاءً تَامًّا.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، فَلَا يَقْصُرُ الْحَدِيثَ عِنْدَ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اسْتِقْلَالًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ عَاضِدًا لِغَيْرِهِ. وَأَسْنَدَ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: «كَانَ النِّسَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوُضِعَ إلَى جَنْبِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ وَتُرِكَ حَمْزَةُ، ثُمَّ جِيءَ بِآخَرَ فَوُضِعَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ وَتُرِكَ حَمْزَةُ صَلَّى يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَأَرْجُو أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ، فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَفَاتُهُ تَأَخَّرَتْ عَنْ وَفَاةِ عَطَاءِ بِنَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَبْلَ ابْنِ زَيْدٍ بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَعَلَى الْإِبْهَامِ لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحُسْنِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَتْ الْقَتْلَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْكُلُّ ضَعِيفًا ارْتَقَى الْحَاصِلُ إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، ثُمَّ كَانَ عَاضِدُ الْمَرَاسِيلِ سَيِّدَ التَّابِعِينَ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَلَى أَنَّ الْوَاقِدِيَّ فِي الْمَغَازِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَسْنَدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ: حَدَّثَنِي رُوَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ الْوَاقِصِي عَنْ سَيْفٍ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ الْيَشْكُرِيِّ قَالَ: كُنْت فِي الْجَيْشِ الَّذِي وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَيْلَةَ وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِيهَا أَنَّهُ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ وَصَلَّى عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَعَ عَمْرٍو تِسْعَةُ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
قولهُ: (وَنَحْنُ نَقول: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالشَّفَاعَةُ وَالتَّكْرِيمُ، يُسْتَفَادُ إرَادَتُهُ مِنْ إيجَابِ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَنَقول: إذَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَكْرِيمًا فَلَأَنْ يُوجِبَهَا عَلَيْهِمْ عَلَى الشَّهِيدِ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْكَرَامَةِ أَظْهَرُ.
قولهُ: (كَالنَّبِيِّ أَوْ الصَّبِيِّ) لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى النَّبِيِّ كَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَبَوَيْهِ. هَذَا وَلَوْ اخْتَلَطَ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلَى الْكُفَّارِ أَوْ مَوْتَاهُمْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالدُّعَاء.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ) لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ كَانَ شَهِيدًا) لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي قِتَالِهِمْ مِثْلُهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ مَأْمُورٌ بِهِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَسُمِّيَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُحَارِبِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقَطْعُ بِأَنَّ مُحَارِبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى أَنَّهُمْ بُغَاةٌ فَيَدْخُلُونَ فِي الَّتِي تَبْغِي بِالْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ فَالْمَقْتُولُ مِنْهُمْ بَاذِلٌ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قولهُ: (مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ ثُبُوتُ بَذْلِهِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ إذْ هُوَ الْمَنَاطُ فِي قَتِيلِ الْمُشْرِكِينَ.

متن الهداية:
(وَإِذَا اُسْتُشْهِدَ الْجُنُبُ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لَا يُغَسَّلُ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِي لَمْ يَجِبْ لِلشَّهَادَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيّ لَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ. وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طُهْرَةً، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ) وَهُوَ الْغُسْلُ (سَقَطَ بِالْمَوْتِ) لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِوُجُوبِ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ. وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ بِالْمَوْتِ لِاحْتِبَاسِ الدِّمَاءِ إنْ قُتِلَ بِغَيْرِ جَارِحٍ، أَوْ لِتَلَطُّخِهِ بِهَا إنْ قُتِلَ بِجَارِحٍ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ فَكَذَا الْوَاجِبُ قَبْلَهُ. وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُهْدَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ ثُبُوتِ التَّنَجُّسِ بِالْمَوْتِ وَبِالتَّلَطُّخِ وَإِلَّا لَرُتِّبَ مُقْتَضَاهُ، أَمَّا رَفْعُهَا لِنَجَاسَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى السَّمْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْحَدَثِ لِلْقَطْعِ إجْمَاعًا بِأَنَّهُ لَا يُوَضَّأُ شَهِيدٌ مَعَ الْعِلْمِ بِاسْتِلْزَامِ كُلِّ مَوْتٍ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَقَلُّهُ مَا يَحْصُلُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ قُبَيْلَهُ، فَلَوْ بَقِيَ الْحَالُ عَلَى عَدَمِ السَّمْعِ لَكَفَى فِي إيجَابِ الْغُسْلِ فَكَيْفَ وَالسَّمْعُ يُوجِبُهُ، وَهُوَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ حَنْظَلَةَ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قولهُمَا سَقَطَ بِسُقُوطِ مَا وَجَبَ لِأَجْلِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قُلْنَا فِي جَوَابِهِ لِمَ لَمْ يُشْرَعْ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِلْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا وَإِدْخَالِ الْقَبْرِ كَمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِلْقِرَاءَةِ وَالْمَسِّ، وَقَدْ لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِيَتَحَقَّقَ سُقُوطُهُ، فَإِنْ أَصْلَحُوا الْعِبَارَةَ قَالُوا سَقَطَ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَهِيَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ دُفِعَ بِتَجْوِيزِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ الْعَرْضُ عَلَى الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيَبْقَى الْوُجُوبُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صِفَةَ تَعَلُّقِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِلتَّوَصُّلِ إلَى حَلِّ مَا لَا يَحِلُّ بِدُونِهِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَالْعَرْضِ إنْ مَاتَ قَبْلَ الْغُسْلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الدَّافِعَ لَيْسَ إلَّا بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ حَنْظَلَةَ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا هَذَا بِأَنَّ الْوُجُوبَ قَبْلَ الْمَوْتِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَبَعْدَهُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ غَيْرُهُ، أَوْ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَنَرْجِعُ فِي إيجَادِهِمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ إلَى حَدِيثِ حَنْظَلَةَ: فَإِنْ قَالُوا: هُوَ إنَّمَا يُفِيدُ إرَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْرِيمَهُ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِ غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ تَعْلِيمٍ لِلْوُجُوبِ وَإِفَادَتِهِ لَهُ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْفِعْلُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْأَوَّلِ، كَغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَقَطَ بِفِعْلِهِمْ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إفَادَةِ الْوُجُوبِ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ نَفْسَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَا بَعْدَهُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ. وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ» فَلَيْسَ بِدَافِعٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَيَيْنِ لَيْسَ حَنْظَلَةُ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ جُنُبًا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عَلَى مَا يُفِيدُهُ نَصُّ حَدِيثِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول وَقَدْ قُتِلَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الثَّقَفِيُّ: إنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ يَعْنِي زَوْجَتَهُ، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَكَانَ قَدْ بَنَى بِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَرَأَتْ فِي مَنَامِهَا كَأَنَّ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ وَأُغْلِقَ دُونَهُ فَعَرَفْت أَنَّهُ مَقْتُولٌ مِنْ الْغَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ دَعَتْ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ قَوْمِهَا فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَاءِ الْمُزْنِ فِي صِحَافِ الْفِضَّةِ» قَالَ أَبُو أُسَيْدَ: «ذَهَبْنَا إلَيْهِ فَوَجَدْنَاهُ يَقْطُرُ رَأْسُهُ دَمًا، فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ.
وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلسَّرَقُسْطِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ خَرَجَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ وَقَدْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ، فَخَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمْ يَغْتَسِلْ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ فَرَسِهِ فَوَثَبَ عَلَيْهِ حَنْظَلَةُ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ يَذْبَحُهُ فَمَرَّ بِهِ جَعْوَنَةُ بْنُ شَعُوبٍ الْكِنَانِيُّ فَاسْتَغَاثَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ فَحَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقول:
لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي ** بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ

وَفِي الْوَاقِدِيِّ سَمَّى الْقَاتِلَ الْأَسْوَدَ بْنَ شَعُوبَ.
قولهُ: (فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ إذْ لَا يَجِبُ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ. وَجْهُ الْمُخْتَارَةِ أَنَّ الدَّمَ مُوجِبٌ لِلِاغْتِسَالِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ، وَقَدْ حَصَلَ الِانْقِطَاعُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْجُنُبِ إذْ قَدْ صَارَ أَصْلًا مُعَلَّلًا بِالْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
قولهُ: (إنَّ الصَّبِيَّ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ) وَهِيَ سُقُوطُ الْغُسْلِ، فَإِنَّ سُقُوطَهُ لِإِبْقَاءِ أَثَرِ الْمَظْلُومِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ مَظْلُومِيَّتَهُ أَشَدُّ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا: خُصُومَةُ الْبَهِيمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ.
قولهُ: (وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ إلَخْ) حَاصِلُهُ إمَّا إبْدَاءُ قَيْدٍ زَائِدٍ فِي الْعِلِّيَّةِ فَإِنَّهُمَا عَلَّلَا السُّقُوطَ إيفَاءَ أَثَرِ الْمَظْلُومِيَّةِ فَقَالَ هُوَ الْعِلَّةُ إبْقَاءُ أَثَرِهَا بِجَعْلِ الْقَتْلِ طُهْرَةً، أَيْ جَعْلِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طُهْرَةً عَنْ الذُّنُوبِ إبْقَاءً لِأَثَرِ الظُّلْمِ، وَلَا ذَنْبَ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ تَأْثِيرُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَأَمَّا مَنْعُ الْعِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا مُجَرَّدُ جَعْلِ الشَّهَادَةِ طُهْرَةً إكْرَامًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقولهُ أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى اعْتِبَارِ التَّكْرِيمِ فِي إسْقَاطِ الْغُسْلِ بِالْقَتْلِ، وَالتَّكْرِيمُ فِي جَعْلِ الْقَتْلِ طُهْرَةً مِنْ الذُّنُوبِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إبْقَاءِ أَثَرِ الظُّلْمِ أَوْ هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُ أَصْلًا.

متن الهداية:
(وَلَا يُغْسَلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) لِمَا رَوَيْنَا (وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ (وَيَزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) إتْمَامًا لِلْكَفَنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) أَيْ يُزِيدُونَ إذَا كَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْكَفَنِ أَوْ نَاقِصًا عَنْ الْعَدَدِ الْمَسْنُون. وَيُنْقِصُونَ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اُرْتُثَّ غُسِّلَ) وَهُوَ مَنْ صَارَ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخِفُّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ (وَالِارْتِثَاثُ: أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُدَاوَى أَوْ يُنْقَلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا) لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ. وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ مَاتُوا عَطَاشَى وَالْكَأْسُ تُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، إلَّا إذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ كَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ، لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ الرَّاحَةِ، وَلَوْ آوَاهُ فُسْطَاطٌ أَوْ خَيْمَةٌ كَانَ مُرْتَثًّا لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ بَقِيَ حَيًّا حَتَّى مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ) لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَاتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ) تَعْلِيلٌ لِقولهِ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ، وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ أَنْ لَا يُغَسَّلَ، وَقَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَلْفًا فِي نَفْسِ الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قولهُ: (وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ إلَخْ) كَوْنُ هَذَا وَقَعَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ قَالَ: انْطَلَقْت يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمِّي وَمَعَهُ شَنَّةُ مَاءٍ فَقُلْت: إنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْته وَمَسَحْت وَجْهَهُ، فَإِذَا بِهِ يَنْشُدُ، فَقُلْت أَسْقِيك؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقول آهِ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أَنْ انْطَلِقْ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَتَيْته فَقُلْت أَسْقِيك؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقول آهِ فَأَشَارَ هِشَامُ أَنْ انْطَلِقْ إلَيْهِ فَجِئْته فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْت إلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْت إلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ. وَأَسْنَدَ هُوَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أُثْبِتُوا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِمَاءٍ يَشْرَبُهُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ عِكْرِمَةُ فَقَالَ ارْفَعُوهُ إلَى عِكْرِمَةَ، فَرَفَعُوهُ إلَيْهِ فَنَظَرَ إلَيْهِ عَيَّاشُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ ارْفَعُوهُ إلَى عَيَّاشٍ، فَمَا وَصَلَ إلَى عَيَّاشٍ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى مَاتُوا وَمَا ذَاقُوا.
قولهُ: (أَوْ يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ) أَيْ وَيَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا حَتَّى يَجِبَ الْقَضَاءُ، كَذَا قَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَفِيهِ إفَادَةٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَدَاءِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، فَإِنْ أَرَادَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ لِلضَّعْفِ مَعَ حُضُورِ الْعَقْلِ فَكَوْنُهُ يَسْقُطُ بِهِ الْقَضَاءُ قول طَائِفَةٍ، وَالْمُخْتَارُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَإِنْ أَرَادَ لِغَيْبَةِ الْعَقْلِ فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَمَتَى يَسْقُطُ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْجَرِيحِ.
قولهُ: (وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) فِي الْكَافِي أَوْ عَاشَ مَكَانَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ إذْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا أَوْ لَيْلَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا يُغَسَّلُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. وَعَنْهُ إنْ عَاشَ بَعْدَ الْجُرْحِ أَكْثَرَ الْيَوْمِ أَوْ أَكْثَرَ اللَّيْلَةِ يُغَسَّلُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ.
قولهُ: (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ) قِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا أَوْصَى بِأُمُورِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا يَكُونُ مُرْتَثًّا اتِّفَاقًا. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْوَصِيَّةِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا يَكُونُ مُرْتَثًّا اتِّفَاقًا. وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا، فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمُحَمَّدٌ لَا يُخَالِفُهُ. وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُخَالِفُهُ فِيهَا. وَمِنْ الِارْتِثَاثِ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا مَنْ تَكَلَّمَ كَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَا يَكُونُ مُرْتَثًّا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمِصْرِ غُسِّلَ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ فَخَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ (إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْهَا ظَاهِرًا، إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ الْعُقْبَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) أَيْ وَيُعْلَمُ قَاتِلُهُ عَيْنًا، أَمَّا مُجَرَّدُ وِجْدَانِهِ مَذْبُوحًا لَا يَمْنَعُ غُسْلَهُ وَقَدْ يُسْتَفَادُ هَذَا مِنْ قولهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ، هَذَا إذَا عَنَى بِالْقِصَاصِ اسْتِيفَاءَهُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لَا تَسْلِيمَ الْقَاتِلِ نَفْسَهُ لَهُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ) وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَسَّلَ مَاعِزًا».

متن الهداية:
(وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ عَلِيًّا إلَخْ) غَرِيبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ:
مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ عَمْدًا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ. قِيلَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَا. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَصَاحِبَيْهِ، فَعِنْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ظَالِمٌ بِالْقَتْلِ فَيَلْحَقُ بِالْبَاغِي. وَلَهُمَا أَنَّ دَمَهُ هَدَرٌ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يُؤَيِّدُ قول أَبِي يُوسُفَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ».